الإحــــالة النصيّة و أثرها في تحقيق تماسك النص القرآني

دراسة تطبيقية على بعض الشواهد القرآنية

 

أ/عبد الحميد بوترعة

جامعة الوادي (الجزائر)

 

مقدمة:

إنّ المتأمّل لتراث العربية يجد أنّ النحاة هم الذين حملوا على عاتقهم دراسة الجملة من الناحية الوضعية فصاغوا قواعدها ،  و استقصوا أنماطها ، و لكنّهم وقفوا عند حدود الجمل في دراساتهم و تحليلاتهم ، ولم يتجاوزوها، في الوقت الذي اشتغل فيه علماء اللغة و المفسّرون و الأصوليّون بالبحث في الكيفية التي بها يتماسك النصّ القرآنيّ و يتآخذ مُشكّلة بذلك نصّا مُتّسِقًا ، ومِن ثَمّ اهتموا باستخراج الوســــــائل و العلائق و الأدوات التي تسهم في تحقيق سمة النصيّة للنصّ القرآنيّ ، بحيث جعلته كُلّاً واحدًا مُوحَّدًا رغم اختلاف أوقات نزوله و أسبابه وحدةً واحدةً يترابط بعضها ببعض ، و تتعلّق أجزاؤه على نحوٍ تكامليّ بحيث لا يستقلّ منه جزء عن الآخر .

و من الأدوات التي تُسْهم مع غيرها في تحقيق تماسك النصّ القرآنيّ و اتساقه أداة الإحالة التي تقوم بدور أساسيّ  في ربط أجزاء الجملة الواحدة من ناحيةٍ ، وربط عدّة جمل مع بعضها البعض في بحيث يتكوّن نصّ أو خطابٌ شامل  ، إذ  نسعى في مداخلتنا هذه لتبيين دور الإحالة النصيّة  في تلاحم النص القرآني انطلاقا من جملة من الشواهد المنتقاة  من آي الذكر الحكيم .

إذْ نطرح جملة من الإشكالات تتمثل في ما يأتي :

-     ما مفهوم الإحالة النصيّة  لغة و اصطلاحا ؟ و كيف يتجلّى حضورها في القرآن الكريم ؟

-     و ما أثر ذلك في الإسهام في تحقيق تماسك النص القرآني و اتساق آياته و خلق سمة النصيّة فيه ؟

مفهوم الإحالة:

  1. 1.    لغــــــــــــة :

جاء في لسان العرب : « المُحَال من الكلام : ما عدل به عن وجهه ، وحوّله جعله محالا ، وأحَال أتى بمُحَال ، ورجل مِحوَالٌ : كثير محال الكلام...ويقال أحلت الكلام أحيله إحالة إذا أفسدته . وروى ابن شميل عن الخليل بن أحمد أنّه قال : المحال الكلام لغير شيء...والحِوَالُ : كلّ شيء حال بين اثنين ...حال الرّجل يحول تحوّل من موضع إلى موضع .الجوهريّ : حال إلى مكان آخر أي تحوّل  «... (1) إنّ كلمة " أحال " تستعمل لازمة ومتعدّيّة ؛ وإذا تعدّت فإنّها تعني نقل الشّيء من حال إلى حال أخرى وتعني توجيه شيء أو شخص على شيء أو شخص آخر لجامع يجمع بينهما ، كما تجوز الدّلالة بها على المعنى الاصطلاحيّ الّذي يحيل فيه العنصر الإحاليّ على عنصر إشاريّ يفسّره ويحدّد دلالته .

 

  1. 2.    اصطلاحا:

الإحالةréférence  هي من أهم أدوات الاتساق النصي و يقصد بها " وجود عناصر لغوية لا تكتفي بذاتها من حيث التأويل و إنّما تحيل إلى عنصر آخر، لذا تسمّى عناصر محيلة مثل الضمائر و أسماء الإشارة و الأسماء الموصولة ...إلخ "  (2) وهي كما يعرفها جون ليونز بأنّها : العلاقة بين الأسماء و المسميات (3) طبيعة هذه العلاقة دلاليّة تقتضي التطابق بين العنصر المحيل و العنصر المحال إليه من حيث الخصائص الدلالية (4) و ذلك أن العناصر المحيلة غير مكتفية بذاتها من حيث التأويل بل تكتسي دلالتها بالعودة إلى ما تشير إليه . لذا وجب قياسها على مبدأ التماثل بين ما سبق ذكره في مقام و بين ما هو مذكور في مقام آخر (5). ويمكن القول إنّ الإحالة هي علاقة بين عنصر لغوي وآخر لغوي أو خارجي بحيث يتوقف تفسير الأول على الثاني؛ ولذا فإن فهم العناصر الإحالية التي يتضمنها نص ما يقتضي أن يبحث المخاطب في مكان آخر داخل النص أو خارجه. وتتحقق الإحالة في العربية بالضمائر بأنواعها، وأسماء الإشارة، والمقارنة و الموصولات .

و يفرّق الباحثون بين الإحالة الخارجية exopheric reference،  والإحالة الداخلية (النصية)  endopheric reference.

ويُقصد بالإحالة الخارجية ذلك النوع الذي يوجّه المخاطب إلى شيء أو شخص في العالم الخارجي.حيث تُسهم في خلق النص باعتبارها تربط اللغة بسياق المقام (6) . أمّا الإحالة الداخلية فتستخدم لتدل على ذلك النوع الذي يحال فيه المخاطب على عنصر لغوي داخل النص.(7) ويمكن التمثيل للنوع الأول باسم الإشارة "هذا" الذي ورد في قوله تعالى :  ) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ ( وأشير به إلى كبير الأصنام، التي جعلوها آلهة، وهذا النوع من الإحالة لا يمنح النص سمة التماسك ؛ لأنّه لا يربط عنصرين معا  في السياق (9( بل يقتضي النظر خارج النص القرآني نفسه لتحديد المُحال إليه . وأمّا النوع الثاني فيمكن التمثيل له من الآية نفسها بالضمير "هم" في قوله تعالى: "كبيرهم" الذي يحيل على الآلهة التي وردت قبل ذلك في قوله: ) قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ. ( (10)

فالإحالة النصية تركّز على العلاقات اللغوية في النص ذاته و قد تكون بين ضمير و كلمة أو بين كلمة و كلمة أو عبارة و كلمة ... (11) و  تنقسم إلى قسمين  :

أ- إحالة على السابق ( قبلية ) anaphoric reference : تعود على مفسر سبق التلفظ به .

ب- إحالة على اللاحق ( بعدية ) cataphoric reference : تعود على عنصرٍ إشاريّ مذكور بعدها في النص (12)

أدوات الاتساق الإحاليّة و حضورها في القرآن الكريم :

  1. 1.    الضمائر :

وهي نوعان ضمائر تحيل إلى خارج النص إذ تندرج تحتها جميع الضمائر الدالة على المتكلم و المخاطب ، و ضمائر تؤدّي دورا هاما في اتساق النص سمّاها هالداي و رقية حسن " أدوارا أخرى " تندرج ضمنها ضمائر الغيبة إفرادا و تثنية و جمعا إذ تحيل داخل النص (13)  . و يمكن توضيح حضورها في القرآن الكريم فيما يأتي :

والأصل في المرجع أو المحال إليه أن يكون سابقا على الضمير لفظا ورتبه مطابقا له لفظا ومعنى كما في قوله تعالى:  

] و نَادَى نُوحٌ رَبَّهُ ((14) فالضمير الهاء إحالة قبلية إلى سابق و هو نوح المُحال إليه ، و نداء نوح ربّه دعاء فكأنّه قيل : و دعا نوح ربّه لأنّ الدعاء يُصدّر بالنداء غالبا ، و التعبير عن الجلالة بوصف الربّ مضافا إلى نوح – عليه السلام –  (ربّه ) تشريف لنوح و إيماء إلى رأفة الله به و أنّ نهيه الوارد بعده نهي عتاب. (15)

   و في قوله تعالى : ) وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ(  (16) حيث أشير بالهاء إلى "إبراهيم" عليه السلام المتقدم الذكر ، فالإخبار عن إيتاء الرشد إبراهيم بإسناد الإيتاء إلى ضمير الجلالة لمثل ما قرّره في قصّة موسى و هارون السابقة لها للتنبيه على تفخيم ذلك الرشد الذي أوتيه ، و لأنّ رشد إبراهيم قد كان مضرب الأمثال بين العرب و غيرهم ، كيف لا و قد أوتي عليه السلام الرشد من جانب الله عزّ و جلّ . (17)

وقد يكون هذا المتقدم كلامًا كثيرًا أو نصًا كاملاً كما في قوله تعالى من سورة الأحزاب : ) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيما(… (18)

فقد أغنى الضمير في " لهم"عن ثلاث وعشرين كلمة لو أتى بها مظهرة ،  وقام بالربط النصي بين أجزاء الكلام ، وقد يتبادر للذهن أن هذه الآية من قبيل الجملة لا النص ، والحق أنها جملة ونص في الوقت نفسه ؛ لأن المعنى قد اكتمل بها واستقل ، ومع ذلك فقد اشتملت على جمل أو ما يقوم مقام الجمل وهو اسم الفاعل المتعدي إلى المفعول في قوله :" والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرًا والذاكرات " فلا يتصور أن يكون لاسم الفاعل هنا مفعول بلا فاعل ، وقد نص النحاة على أن اسم الفاعل يتحمل ضميرًا مستترًا يكون فاعلا له، وإذا كان ذلك كذلك فنحن هنا بإزاء عدة جمل لا جملة واحدة ، ومن هنا ندرك وجاهة رأي من ذهب من النحويين إلى أن "أل" الداخلة على اسمي الفاعل والمفعول هي اسم موصول (19)

وقد يكون مفهوما من مادة الفعل السابق مثل) : اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ( (20) أي  ( اعدلوا  فالعدل أقرب للتقوى ) , فالضمير في قوله ( هو أقرب ) عائد إلى العدل  المُستوحى و المفهوم من "تعدلوا" ، لأنّ عود الضمير يُكتفى فيه بكلّ ما يُفهم حتّى قد يعود على ما لا ذكر له ، فالضمير هو إحالة قبلية ربطت بين الجملة الواردة فيها و الجملة السابقة لها من خلال عـــــوده إلى المـــحال إليه وهــــــــــو العدل. (21 )  

ومنه ما يعرف بضمير الشأن أو القصة، كما في قوله تعالى : ) َفإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ((22 )  التي يحيل فيها الضمير "ها" على المحتوى الدلالي المفهوم من الكلام بعدها، وهو أن العمى الحقيقي إنما هو عمى القلوب، وليس عمى الأبصار .

فالضمير في قوله : " فإنّها " ضمير القصّة أو الشأن . أي فإنّ الشأن و القصّة هي مضمون الجملة بعد الضمير ، أي لا تعمى الأبصار و لكن تعمى القلوب ،  فإنّ الأبصار و الأسماع طرق لحصول العلم  بالمبصرات و المسموعات ، و المدرِك لذلك هو الدماغ فإذا لم يكن في الدماغ عقل كان المبصر كالأعمى و السامع كالأصمّ ، فآفة ذلك كلّه هو اختلال العقل . (23 ) 

ولعلّ من المفارقات الجديرة بالملاحظة أنه كلما زادت الإحالات في الجملة كما في آيتي كسر الأصنام السابقة  (24 )   زاد اعتمادها على غيرها في فهمها، واضمحلّ استقلالها بنفسها، فتزايدت قوتها الربطيّة، والتعلقيّة، وقدراتها التماسكيّة، وكل ذلك يدعم سمة النصية فيها .

وقد لا يطابق الضمير معنًى مثل) : وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ(  (25 )  فالضمير في " جعلناه " يعود على الإنسان باعتبار أنّه من السلالة ، فالمعنى جعلنا السلالة في قرار مكين ، أي وضعناها فيه حفظا لها ، و لذلك غُيِّر في الآية التعبير عن فعل الخلق إلى فعل الجعل المتعدّي بــــــ (في) بمعنى الوضع (26 ) وإذا كان المرجع صالحا للمفرد والجمع جاز عود الضمير عليه بأحدهما مثل) : وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً ( (27) فالهاء  في ( يدخله ) ضمير للمفرد الغائب يُحيل إلى اسم الموصول ( من ) و صلته أي ( المؤمن و العامل عملا صالحا  جزاؤه الجنة )  . (28) والأصل اتحاد مرجع الضمائر إذا تعدّدت مثل قوله تعالى ) : عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى(5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى(6) وهو بالأفق الأعلى (7)ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى(8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ((29) ، فضمائر الرفع في هذه الآيات تعود إلى شديد القوى وهو جبريل عليه السلام  .

  1. 2.    أسماء الإشارة Demonstrative :

تُعدّ الوسيلة الثانية من وسائل الاتساق النصي الداخلة في نوع الإحالة فمنها ما يدلّ على الزمان (الآن و غدا) ،ومنها للمكان (هنا و هناك) ،ومنها للبعد (ذلك و تلك) ،ومنها للقرب (هذه ،  هذا) فهي تقوم بالربط القبلي و البعدي ومن ثَمّة تسهم في اتساق النص (30) و يتضح دورها في تماسك النص القرآني في عديد المواضع منها :

في قوله تعالى: ) هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ، يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (  (31) .

نلاحظ احتواء هذه الآية على عناصر إشاريّة معجميّة وعنصر إشاريّ نصّيّ واحد فقط ، وتتمثّل الأولى في( السّماء ، شراب ، شجر ، الزّرع ، الزّيتون ، النّخيل ، الأعناب ، الثّمرات ) ، بينما يتمثّل الثّاني في الملفوظ السّابق على العنصر الإحالي وهو اسم الإشارة (ذلك) حيث ورد هذا الأخير اختزالاً للكلام واقتصادًا للجهد واجتنابًا للتّكرار حين أحال إلى ملفوظ يحتوي عناصر إشاريّة معجميّة ومجموعة أحداثٍ تلتقي كلّها في نتيجة ينبني عليها الحدث أو المعنى الّذي يحيل عليه العنصر الإحاليّ الجامع لكلّ ما تقدّم عليه .

ومنه أيضا قول القرطبي في قوله تعالى :

 ) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ( (32)  الإشارة بذلك إلى هذه الآداب والقصص والأحكام التي تضمنتها الآيات المتقدمة عن هذه الآية (33).ومن البيّن أن هذه الآداب والقصص والأحكام تتجاوز حدود الجملة الواحدة  إلى نص بل نصوص متعددة ، وقد عاد عليها اسم الإشارة كلها فحقق بذلك اختصارًا وترابطًا .

ومن المواضع التي استخدم فيها اسم الإشارة للربط بين نص ونص قوله تعالى: ) إنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى(18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى( فالمشار إليه هو ما تقدم من قوله : ) قدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى(14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى(15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا(16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ( (34)

 

  1. 3.    أدوات المقارنة  Comparative:

كل عملية مقارنة تتضمن شيئين -في الأقل- يشتركان في سمة مشتركة بينهما. ويمكن التمييز بين نوعين من المقارنة: مقارنة عامة، ومقارنة خاصة

 المقارنة العامة : وهي تأتي ألفاظ المقارنة التي تعبر عن التشابه: ومنها "شبيه"، و"مشابه". ألفاظ المقارنة التي تعبر عن التطابق، ومنها "نفسه"، و"عينه". مطابق"، "مكافئ"، "مساو"، "مماثل" قبيل"، "مثيل"، "نظير"، "مرادف" ألفاظ المقارنة التي تعبر عن التخالف : ومنها "مخالف"، "مختلف"، "مغاير". ألفاظ المقارنة التي تعبر عن الآخرية : ومنها "الآخر"، "أيضا"، "البديل"، "الباقي".

وتتميز ألفاظ المقارنة بأنها تعبيرات إحالية لا تستقل بنفسها، وهو ما يؤهلها لأن تكون وسيلة من وسائل التماسك؛ ولذا فأينما وردت هذه الألفاظ اقتضى ذلك من المخاطب أن ينظر إلى غيرها بحثا عما يحيل عليه المتكلم. وكما كان الأمر مع الضمائر وأسماء الإشارة، يحتمل أن يكون المرجع خارجيا، ويحتمل أن يكون داخليا، فإذا كان داخليا، فإما أن يكون المرجع متقدما، أو متأخرا. (35)

و يمكن توضيح حضور هذه الأداة في تماسك النص القرآني في ما يأتي :

  قال تعالى : ) قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ( (36)

فقد ربطت كلمة أكبر (التي هي لفظ من ألفاظ المقارنة) الجملة الثانية بالأولى؛ لأنّه لا يكون الشيء أكبر إلا بالموازنة بشيء آخر، ولا يعرف ذلك الشيء الآخر إلا بالرجوع إلى ما سبق في الآية، ومن هنا تتحقق فكرة اعتماد أجزاء النص بعضها على بعض، وعدم استغناء أحدها عن الآخر.

  1. 4.    الموصولات Relative:

يعدّ الاسم الموصول وسيلة من وسائل التماسك النصي ؛لأنّه يستلزم وجود جملة بعده ، وعادة ما تكون هذه الجملة فعلية ، وقد يعطف على هذه الجملة بعدة جمل فيطول الكلام ، ويكون نصًا كاملا ، ويظل مرتبطًا كله بالاسم الموصول الأول . ومن جهة أخرى يعد الموصول أداة من أدوات الإحالة فيرتبط بمذكور سابق ، وقد يتكرر بصورة واحدة ، ويظل مرتبطًا بهذا المذكور السابق محدثًا نسقًا واحدًا للنص كله . ومن ذلك الآيات الأولى من سورة المؤمنون ، يقول تعالى : ) قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ . إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ . فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ . أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ . الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( (37)  ،  فقد تكرّر فيها اسم الموصول " الذين" سبع مرات ، وكلها يعود إلى الاسم الأول الذي يمثل نواة النص (38)

ومثلها الآيات 22-35 من سورة المعارج فقد تكررت فيها كلمة "الذين" ثماني مرات ، وكلها يرجع إلى الاسم الأول" المصلين " الذي هو محور النص، وقد حقق هذا للنص تماسكًا قويًا بسبب رجوعها كلها إلى مذكور واحد هو عباد الرحمن .

وهناك الموصول الفردي "الذي" فإنه كثيرًا ما يتكرر وصفًا لله عز وجل في مقام إثبات ألوهيته ووحدانيته ونعمه سبحانه على خلقه ، وغالبَا ما يقترن بالضمير "هو" مكونًا معه رابطة نصية قوية تفيد التخصيص والتأكيد كما في هذه الآيات من سورة الأنعام ) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(97) وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ(98) وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً... ((39).

وكلما مضينا في السورة قابلنا هذا التعبير "وهو الذي" عبر مراحل متفاوتة وكأنه مفتاح لنص جديد .

) أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً ... ( (40)  

) وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ... ( (41)

ومنه أيضا قوله تعالى :

) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(  (42) ففي هذه الآية دعوة الله للناس بعبادته وحده في قوله "اعبدوا ربكم " و لو أريد غير الله لقيل اعبدوا أربابكم فلا جرم كان قوله "اعبدوا ربكم " صريحا في أنّه دعوة إلى توحيد الله و لذلك فقوله " الذي خلقكم " زيادة على كون اسم الموصول الذي يعود إلى الذات الإلاهيّة المُحال إليها ( ربّكم) فهو أيضا زيادة بيان لما اقتضته الإضافة من تضمّن معنى الاختصاص بأحقيّة العبادة . (43)

 وقد عدّ  د. تمام حسان الموصولات من عناصر الإحالة مستشهدا عليها بقوله تعالى :  ) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ ( (44) فالاسم الموصول (الذي) قد قوّى المعنى وذلك بإحالته إلى سابقة إلى (الرسول النبي) لكون المراد وصف الرسول بأنّه مكتوب في التوراة ، كما أُحيل إليه بالعائد الضمير في (يجدونه) ؛ وبذلك يكون للموصول إحالتان قبلية وبعدية(45).

ونخلص في نهاية عرضنا هذا إلى أنّ الإحالة بوصفها أهم العلاقات التي تربط العناصر اللغوية بعضها ببعض، وتعمل على تماسكها و خاصّة في القرآن الكريم الذي يعدّ الأنموذج الأعلى للاتساق النصي و الانسجام الدلالي فقد خلص علماء إعجاز القرآن إلى أن من أوجه الإعجاز هو في نظم القرآن و أسلوبه "وطرائق نظمه ، ووجوه تراكيبه ، ونسق حروفه في كلماته و في جمله ، ونسق هذه الجمل ... هو وجه الكمال اللغوي" (46)

وقد حاولنا في هذه الدراسة أن نثبت أن للإحالة دور كبير في خلق سمة النصية  ، وأوضحنا بالشرح والتمثيل والبرهان كيف تسهم أنواع الإحالة المختلفة من إضمار، وإشارة، وموصول ، ومقارنة  في تعليق الكلام بعضه ببعض، والربط بين عناصره سواء أكانت تلك الإحالة على متقدم أو متأخر في شواهد قرآنية عديدة بحيث صار القرآن كلّه كالسورة الواحدة أو هو في حكم كلام واحد . يفسّر بعضه بعضا فما أجمل في مكان فقد فصّل في موضع آخر ،وما اختصر في مكان فإنّه قد بسط في آخــر (47)

 

تحميل المقال