مفهوم النص في المدونة النقدية العربية

أ . ملفوف صالح الدين

المركز الجامعي خميس مليانة (الجزائر)

 

إذا كان مفهوم علم النص يعد جديدا نسبيا ، فإنه قد استقر رسميا بوصفه كذلك منذ عشرين سنة تقريبا  ⃰ . و أطلق عليه في مجال اللغة الفرنسية تسمية علم النص (Science des textes) أما في اللغة الإنجليزية فإنه يسمى تحليل الخطاب (Discours analysais  ) .

إن قضايا علم النص كثيرة و متنوعة ، يستعصي على الدارس أن يضمها في مداخلة واحدة ، و يصعب عليه أن يلم بها في سويعات أو دقائق معدودات ، و انطلاقا من هذا جاءت مداخلتنا تحوي بين دفتيها رأس القضايا النصية القديمة و الحديثة ممثلة في مفهوم النص .

يشكل مفهوم النص قطب رحى الدراسات اللسانية المعاصرة ، بدليل اختصاص الدراسات المتعلقة بالنص بأسماء عديدة مثل : علم النص ، لسانيات النص ، لسانيات الخطاب ، نحو النص ... و غيرها ، و كلها تلتقي في ضرورة مجاوزة الجملة في التحليل البلاغي إلى فضاء أرحب اصطلح على تسميته بالفضاء النصي . فقد عدﱠت الباحثة خولة طالب الإبراهيمي الاتجاه إلى النص بمثابة الفتح الجديد في اللسانيات الحديثة ، بوصفه « التحول الأساسي الذي حدث في السنوات الأخيرة ، لأنه أخرجها ـ اللسانيات ـ نهائيا من مأزق الدراسات البنيوية التركيبية التي عجزت في الربط بين مختلف أبعاد الظاهرة اللغوية : البنيوي و الدلالي و التداولي . » 1 .

تسعى هذه المداخلة لاقتفاء أثر مختلف المفاهيم العربية ، اللغوية ـ منها ـ و الاصطلاحية المتعلقة بالنص ، تحقيقا لأهداف عديدة يأتي على رأسها : إماطة اللثام عن الجهود العربية النقدية و اللسانية التي ما فتئت تحاول رسم تصور نظري خاص بها يلخص مفهوم هذا  المصطلح ، و يبتعد به كل البعد عن التصور الغربي ، ناهيك عن محاولة تتبع التطور الذي صاحب مفهوم النص من القديم إلى الحديث ، و الإضافات النوعية التي لحقت بهذا الأخير .

النص في المعاجم العربية القديمة يدور على عدة معان هي: الرفع و الإظهار، و جعل بعض الشيء فوق بعضه، و بلوغ الشيء أقصاه و منتهاه، و التحريك، و التعيين على شيء ما، و التوقيف و الاستقصاء و المناقشة. 2

و من العجيب عدم وجود اختلاف يذكر في معنى ( نص ) بين المعاجم العربية القديمة ، فما نجده عند الزمخشري المتوفى سنة 538 ﮬ ، نجده عند ابن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852 ﮬ ، في شرحه لكتاب الزمخشري الذي عنوانه ( غراس الأساس ) ، و هذا ما يتكرر عند الزبيدي المتوفى سنة 1205 ﮬ ، في كتابه ( تاج العروس ) لولا أنه ذكر عبارة شائعة في عصره و ما قبله من العصور ، و هي عبارة ( نصت الفقهاء ) و قد فسرها بالدليل ، مستندا على المعنى الأصولي لكلمة النص ، و يبدو أن النص بمعنى القول العادي غير المرتبط بالكتاب و السنة قد تطور عن هذه العبارة ، و أصبح يعني أشياء أخرى كثيرة .

أما المعنى الشائع لكلمة ( نص ) بين متكلمي اللغة العربية المعاصرة فهو : « صيغة الكلام الأصلية التي وردت من المؤلف . » 3 . و هذا ما يجعل من المعنى الأخير مولدا ، مع الاكتفاء بصيغة كلام المؤلف دون القائل و كأنه تلميح إلى الصفة الكتابية للنص . و هذا غير صحيح ، فالنص كما يفهمه العرب الآن هو صيغة الكلام المنقولة حرفيا سواء أكانت نطقا أم كتابة ، و هنا لا بد من الإشارة إلى أن أقرب المصطلحات إلى النص عند القدماء هو مصطلح المتن المقابل للإسناد عند المحدثين .

و على الرغم من هذه الجهود العربية الخالصة التي تحسب لأصحابها ، فقد حاول بعض الباحثين التقريب بين أصل كلمة ( النص ) في اللغة العربية و في بعض اللغات الأخرى التي يعود أصل كلمة النص فيها إلى ( النسج أو النسيج ) 4 ، تماما مثلما فعل الأزهر زناد في كتابه ( نسيج النص ) ، أو مصطفى صلاح قطب في كتابه ( دراسة لغوية لصور التماسك النصي في لغتي الجاحظ و الزيات ) ، حيث تمت المقارنة بين ( نص ) العربية ، و بين Texte في الفرنسية ، و Texto في الإسبانية ، و Text في الإنجليزية ، و الأصل اللاتيني للكلمة في تلك اللغات و هو Textus ، غير عابئين بالفروق المختلفة بين اللغة العربية و تلك اللغات ، و غير عابئين أيضا باختلاف اللغات في طريقة صوغ معانيها الاصطلاحية و العرفية ، و من المعلوم أن النسج و الوشي كانا شائعين في العربية الفصحى في وصف الشعر ، ثم شاعا بعد ذلك في وصف النثر أيضا ، و يعنى به في الغالب إحكام الصنعة و تميزها . 5 .

من الباحثين الذين حاولوا الجمع بين الدلالة المعجمية لكلمة ( نص ) في العربية و الفرنسية و الإنجليزية نذكر الباحث خليل الموسى ، مع اعترافه بوجود فوارق دلالية بين تلك المفاهيم اللغوية ، و هي فوارق ناتجة عن التداول اللساني الذي يعكس نمطا حضاريا من الاستخدام اللغوي ، يقول في هذا الشأن : « لا شك في أن معاني ( نص ) في القديم غيرها في الحديث ، و عند العرب غيرها عند سواهم ، و هذا أمر طبيعي تقتضيه التطورات و التغيرات الزمنية و المكانية التي تطرأ على معاني الألفاظ . » 6 .

و على الرغم من اعتراف هذا الباحث بالفروق الدلالية بين المعاجم ، فإنه يضيف قائلا    و محاولا إيجاد نوع من القرابة بين المعنيين اللغويين ، الغربي و العربي : « لكن بعض هذه المعاني ،   و بخاصة الثوابت منها ، تتقاطع و تتلاقى ، فالرفع مثلا يعيد النص إلى صاحبه ، و التحريك صفة من أهم صفات النص الأدبي ، فهو حوار بالدلالة ، أما الإظهار ففيه معنى الإنجاز و التمام ، و إذا كانت العروس تنص على المنصة لترى في أجمل حلة و صورة لها ، فكذلك شأن النص الذي لا يخرجه صاحبه إلى الناس إلا في حالته التي يراها جميلة ، و من هنا كان معنى الحوليات في الشعر الجاهلي ، ثم إن من معاني النص : الافتضاح و الإشهار ، و منها قولهم : وضع فلان على المنصة أي افتضح و اشتهر ، و من ذلك التحديد و الوصول إلى الغاية و المنتهى في الجودة و البلاغة . » 7 .

من الممكن الربط بين معنى ( النص ) كما يفهمه العرب الآن من أنه الصيغة الأصلية لكلام منشئه ، و المعنى اللغوي ، بأن النص يرفع إلى منشئه ، مما يفسر العلاقة المتينة بين النص و صاحبه ضمن الإطار التداولي . كما أن النص له بداية و نهاية تفهمان من بروزه و ظهوره ، و لا يمكن أن يدرس نص ما إلا إذا كانت له بداية و نهاية . أما النسج و علاقته بالترابط بين كلمات النص ، فإنه أمر معروف في أي كلام ، و في أية لغة من اللغات ، و لكن الأصل اللغوي لكلمة ( نص ) في اللغة العربية ، لا يؤيد ربطه بالنسج كما في اللاتينية .

هناك من الباحثين ـ كذلك ـ من يحاول تحميل أصل مفهوم كلمة ( نص ) ما لا تحتمل ، لربط المعنى اللغوي بالمعنى الاصطلاحي الحديث ، ﻔ ( نص الأمر بمعنى شدته ) ـ كما جاء في لسان العرب ـ يجعل منه دلالة على معنى « الاستقصاء التام ، و الاقتصاد اللغوي » 8 ، الذي يجب أن يتحقق في النص ليكون نصا ، و لكن هذا بعيد عن معنى شدة الأمر التي لا يمكن أن يلمح منها معنى الاقتصاد البتة .

إذا انتقلنا إلى مفهوم النص في الاصطلاح العربي ، اكتشفنا عدم اهتمام القدماء اهتماما يذكر بمفهوم النص ، باستثناء علماء الأصول و على رأسهم الإمام الشافعي ، بوصفه أول من تطرق إلى مفهوم النص في نظريته عن البيان ، حيث يذكر عن النص أنه « ما أتى الكتاب على غاية البيان فيه ، فلم يحتج مع التنزيل فيه إلى غيره . » 9 ، و على ذلك فالنص ما « لا يحتمل إلا معنى واحدا . » 10 ، أو هو  « ما رفع في بيانه إلى أبعد غاياته . » 11 .

كما أن للنص مفهوما آخر عند الأصوليين : « إذ يستعملون هذا اللفظ فيما ورد في بحوثهم من اصطلاحات مثل : عبارة النص و إشارة النص ... إلى آخره ، يفهم منها أنهم يطلقونه على كل ملفوظ مفهوم المعنى من الكتاب و السنة سواء أكان ظاهرا أو نصا أو مفسرا ، أي أن كل ما ورد من صاحب الشرع فهو نص . » 12 . و يبدو أن الدلالة كانت المعيار الوحيد الذي احتكم إليه الأصوليون لأول وهلة ، و لكن تلك الدلالة تكون مرتبطة باللفظ المركب سواء أكان منطوقا أم مكتوبا .

و يجلي نصر حامد أبو زيد نظرة الأصوليين إلى ( النص ) جاعلا منه نصيبا من العلاقة بين المنطوق اللفظي و الدلالة ، ثم يقول في ذلك : « النص هو الواضح وضوحا بحيث لا يحتمل سوى معنى واحد ، و يقابل النص المجمل الذي يتساوى فيه معنيان يصعب ترجيح أحدهما ، و يكون ( الظاهر ) أقرب إلى النص من حيث إن المعنى الراجح فيه هو المعنى القريب ... » 13 .

أما ( النص ) في اصطلاحات المحدثين العرب ، فقد تنوعت تعريفاته بتنوع التخصصات العلمية ، و بتنوع الاتجاهات ، و المدارس المختلفة ، و قبل استعراض بعض من تلك التعريفات تجدر الإشارة إلى انتقاد وجهته نهلة الأحمد للمهتمين بمفهوم النص في الدراسات العربية المعاصرة ، حيث تقول : « إن مفهوم النص الذي تشتغل عليه الدراسات العربية الحالية مفهوم أجنبي لمصطلح عرب   خطأ ، و لم يجد ما يطابقه في اللغة العربية ... فالذين يقولون بالنص يحصرون معناه بالظهور ، و هو عندهم الكتاب و السنة تحديدا ، و النص يعنـي الظهور التـام للمعنى و نفي التأويل ، و هم بذلك ينفون     وجود نص غير الكتاب و السنة ، فلماذا نقول النص الأدبي ، و النص العلمي ، و النص القانوني ؟ !إذا المصطلح الذي نستخدمه يحيل إلى مفهوم غربي ، و الذين يؤولون لا يقولون بوجود النص ، و في أحسن الحالات يقولون بندرته فكيف يعنونون كتبهم بعنوانات مثل ( مفهوم النص ، نقد النص ، النص  و الحقيقة ، النص و التأويل ) و يقصدون الكتاب و السنة ؟! أم إنهم يقيمونها على الندرة النادرة ؟! فهل هو اعتراف و عدم اعتراف بوجود النص ؟ و إلا فما يشتغلون عليه نص و لكنه نص بالمفهوم الغربي أي ( نسيج ) و هو ما يفهمه الناس اليوم و يحيلون عليه . إذا لا وجود ﻠ ( النص ) في الثقافة العربية . » 14 .

إن ما أشارت إليه نهلة الأحمد فيما يتعلق بأولئك الباحثين المعاصرين في علوم القرآن ،  و في النص العربي و فلسفته يستدعي منا التساؤل : ماذا يقصدون بالضبط حينما يستعملون كلمة ( النص ) ، أو كلمة ( الخطاب ) ؟ . أما عن قولها : إن الناس يفهمون النص بالمفهوم الغربي فيستدعي التوقف ، لأن أغلب الناس يفهمون من النص أنه الكلام الحرفي المنسوب إلى منشئه بقطع النظر عن معناه ، غير أنه يكثر انصرافه إلى الكلام المرتفع عن الكلام العادي أو عن المحادثة ، خصوصا الديني أو الأدبي أو العلمي . إضافة إلى ذلك فإن كلمة ( نص ) قد تطورت دلاليا في نطاق العربية بإطلاقها على الكتاب و السنة إجمالا ، بغض النظر عن وضوح المعنى أو قطعيته ، ثم تطورت أيضا بإطلاقها على كلام الفقهاء في قولهم : ( نصت الفقهاء على كذا ) ، و من ثم شاع إطلاق كلمة ( نص ) في أوائل القرن التاسع عشر و مستهل القرن العشرين على نص الشاعر و غيره من النصوص . و مع بروز الحداثة ، دخلت العربية مفاهيم مختلفة للنص مرتبطة بتلك الاتجاهات .

و مهما يكن من أمر ، فإن من أبرز تعريفات النص في الدراسات العربية المعاصرة تعريف طه عبد الرحمن الذي يعده : « كل بناء يتركب من عدد من الجمل السليمة مرتبطة فيما بينها بعدد من العلاقات . » 15 . و من المحاولات الأخرى لتعريف النص ، محاولة محمد مفتاح ، التي انطلق فيها من منطلقات ثلاثة ، أولها : تجاوز ثنائية الحقيقة و الاحتمال و من خلال ذلك ينبغي تجنب الرؤية التقليدية للنص باعتبار أحادية معناه ، و شفافيته ، و حقيقته و صدقه ، فيكون النص كل ما دل على الحقيقة و على الاحتمال ، و على الممكن . و المنطلق الثاني : تدرج المفهوم ، حيث النص يطلق على الحقيقة ، على المكتوب المتحقق في كتابته علاقات متواشجة بين المكونات المعجمية و النحوية و الدلالية و التداولية في زمان و مكان معينين ، و المكتوب الذي لا تتحقق فيه تلك العلاقات ليس نصا ، و يسمى اللانص ، فإذا كان المكتوب مزيجا مما تحققت فيه تلك العلاقات مع بياض ، و علامات سيميائية أخرى كالرسومات و الأشكال سمي نصا . و يعتمد المنطلق الثالث على تدريج المعنى ، و ينبغي أن يؤخذ لذلك في الحسبان حجم النص ، و نوعه ، و اختلاف درجة دلالة النص باختلاف نوعه ، و باختلاف درجة دلالة الجمل في النص نفسه ، و يعتمد محمد مفتاح هنا على تقسيمات القدماء في درجة الدلالة من المحكم حتى المتشابه . 16 .

أما إبراهيم الفقي في دراسته للتماسك النصي ، فيرى أن النص حدث تواصلي ، يلزم لكونه نصا أن تتوافر له سبعة معايير إذا تخلف واحد منها تنتزع منه صفة النصية ، و هذه المعايير هي : السبك أو الربط النحوي أي cohésion ، التماسك الدلالي أو cohérence ، الذي ترجمه تمام حسان بالالتحام ، القصد أي intentionnalité، و هو الهدف من إنشاء النص ، القبول و المقبولية أي acceptabilité ، و تتعلق بموقف المتلقي من النص ، الإخبار و الإعلام المتعلقة بأفق انتظار المتلقي    و مجموع توقعاته للمعلومات الواردة في النص أي informativitè ، المقامية أو situationalitè ، المتعلقة بمناسبة النص للموقف و الظروف المحيطة به ، و أخيرا ما اصطلح على تسميته بالتناص أو intertextualité . 17 .

من جملة المعاصرين الذين تناولوا مفهوم النص نجد عبد الملك مرتاض ، فمن حيث الشكل لا يحدد هذا الأخير ( النص ) من خلال كمه أي من خلال الجملة أو مجموعة الجمل داخل    النص ، فهو يرى أن النص : « لا ينبغي أن يحدد بمفهوم الجملة ، و لا بمفهوم الفقرة التي هي وحدة كبرى لمجموعة من الجمل ، فقد يتصادف أن تكون جملة واحدة من الكلام نصا قائما بذاته مستقلا    بنفسه ، و ذلك ممكن الحدوث في التقاليد الأدبية كالأمثال الشعبية و الألغاز و الحكم السائرة و الأحاديث النبوية التي تجري مجرى الكلام و هلم جرا » 18 . أما من حيث الدلالة ، فهو شبكة المعطيات الألسنية    و البنيوية و الإيديولوجية ، كلها تسهم في إخراجه إلى حيز الفعل و التأثير ، و من هنا يستند عبد الملك مرتاض على نظرية القراءة في تحديد مفهوم النص : « فالنص قائم على التجددية بحكم مقروئيته ،       و قائم على التعددية بحكم خصوصية عطائيته تبعا لكل حالة يتعرض لها في مجهر القراءة ، فالنص من حيث هو ذو قابلية للعطاء المتجدد المتعدد بتعدد تعرضه للقراءة ، و لعل هذا ما تطلق عليه جوليا كريستيفا ( إنتاجية النص ) حيث إنه يتخذ من اللغة مجالا للنشاط فتراه يتردد إلى ما يسبق هذه اللغة ، محدثا بعدا بين لغة الاستعمال اليومية ـ و هي اللغة المسخرة لتقديم الأشياء و التفاهم بين الناس ـ  و الحجم الشاعر للفاعليات الدالية ، فتنشط اللغة التي هي الأصل الأدبي في كل مرحلة من مراحله و مظاهره . » 19 .

أما نور الدين السد فينطلق من رؤية لسانية ، لا تعتمد تقسيم الخطاب إلى نفعي و آخر فني ، بل تصنف النص تصنيفا نوعيا ، و بذلك أصبح النص الأدبي ـ عنده ـ لا يمثل إلا أحد الأنواع النصية العديدة ، و منها : النص الديني ، و النص القضائي ، و النص السياسي ، ... و غير ذلك من النصوص الأخرى . 20 . و يضيف نور الدين السد قائلا : « إن القارئ ، و السياق ، و وسائل الاتساق ، أركان جوهرية و حاسمة في تمييز النص عن اللانص ، فمتكلم اللغة ، العارف بخصائصها ، هو وحده القادر على أن يحكم بنصية ما تلقاه ، إما أنه يشكل كلا موحدا ، و إما هو جزر من الجمل و التراكيب لا يربطها رابط ، لذلك كان الاتساق ـ اللغوي ـ مقوما أساسيا في الحكم على نصية أي نص من عدمها . » 21 .

إن الترابط بين أجزاء النص أبرز الخصائص التي تسم النص بالنصية ( texture ) فالنص ليس « مجموعة جمل فقط لأن النص يمكن أن يكون منطوقا أو مكتوبا ، نثرا أو شعرا ، حوارا أو مونولوغا ، يمكن أن يكون أي شيء من مثل واحد حتى مسرحية بأكملها ، من نداء استغاثة حتى مجموع المناقشة الحاصلة طوال يوم في لقاء هيئة ، و النصية تميز النص عما ليس نصا ، فالنصية تحقق للنص وحدته الشاملة ، و لكي تكون لأي نص نصية ، ينبغي أن يعتمد على مجموعة من الوسائل اللغوية التي تخلق النصية ، بحيث تسهم هذه الوسائل في وحدته الشاملة ، و لتوضيح ذلك نضرب المثل الآتي : ( اقطف قليلا من الزهور ، ضعها في مزهرية قاعة الاستقبال ) ، غني عن البيان أن الضمير ( ها ) في الجملة الثانية يحيل قبليا إلى ( الزهور ) في الجملة الأولى ، و ما جعل الجملتين متسقتين هو وظيفة الإحالة القبلية للضمير ( ها ) ، و بناء على ذلك فإن الجملتين تشكلان نصا . » 22 .

هناك تعريفات أخرى كثيرة للنص لم تذكر خشية الإطالة ، و مع ذلك سنحاول تبني تعريف منها ـ نحسبه ـ شاملا و كاملا ، يمكن من تغطية النقص الذي اعترى كل تعريف من التعريفات السالفة الذكر ، و نقصد به تعريف إبراهيم الفقي ، ذلك لأنه حدد مجموعة من المعايير التي يمكن من خلالها الحكم على أي حدث تواصلي بالنصية ، و هذه المعايير هي : السبك ، و الحبك ، و القصد ، و القبول ، و الإخبار ، و المقام ، و التناص . و هي معايير ـ كما يبدو ـ قد جمعت بين كل أركان العملية الإبداعية من مؤلف و مؤلف و قارئ .

من خلال ما سبق ، سنحاول في هذه المحطة الختامية صياغة تعريف خاص بالنص يتميز بمنحى شمولي ، قصد الاستعانة به في مقاربة جميع أنواع النصوص ، و على هذا الأساس نقول إن النص وحدة كلامية مكونة من جملتين فأكثر ، تحقيقا أو تحقيقا و تقديرا ، منطوقة أو مكتوبة ، لها بداية و نهاية تتحدد بها ، و تتداخل مع منتجها و لغتها في علاقة عضوية ثابتة ، و هي تتجه إلى مخاطب معين أو مفترض ، و يمكن أن تصاحب تلك الوحدة الكلامية بعض الإشارات السيميائية غير اللغوية التي قد تؤثر فيها .

تبقى الإشارة إلى أن مصطلح النص يظل يمثل بالنسبة للنقد الحديث تحديا و إشكالية معقدة و مصدرا لحوار خصب في المفاهيم و الأفكار و المقاربات النقدية ، و نتيجة للاهتمام الكبير بالنص ، تطورت استراتيجيات نصية textual strategies خاصة تعنى بفحص النص ذاته ، و النظر إليه كبنية محايدة ، و مكتفية بذاتها ، و معزولة عن سياقها الخارجي أو ارتباطاتها بالمؤلف أو القارئ أو المرجع الخارجي . و قد دفع ذلك ببعض النقاد و المنظرين المحدثين المتأثرين بالثورة اللسانية الحديثة إلى الإعلاء من شأن النص على حساب بقية عناصر العملية الإبداعية ، بحيث أصبحت سلطة النص هي السلطة الطاغية المتحكمة في بقية السلطات .

 

تحميل المقال