تشكيل القارئ الضّمني في رواية دمية النّار

للرّوائي بشير مفتي

أ/ آمنة أمقران

جامعة أم البواقي(الجزائر)

 

   القراءة وأسئلة الرواية:

إنّ فعل القراءة وحتى يكون منتجا للمعرفة يتطلّب ركيزتين أساسيتين ليقف باستواء؛ المقروء / القارئ.

إنّ المقروء هنا هو النّص الرّوائي، والحقّ أنّ للرّواية سطوتها التي تدفع المتورّط فيها إلى المواجهة عبر عدة جبهات، ولعلّ النّفاذ إلى الأسس النّظرية لاشتغال وتكوّن الخطاب الرّوائي باعتباره منجزا نصيّا تمارسه بتفرّد ذات ساردة كفيل بأن يطرح استراتيجيات للكشف عن إبدالات هذا الخطاب.    قّق عبر ا للمناهج النّقدية 

إنّ القارئ إذن محاصر بسؤال أنطولوجي متعلّق بوجود النّص، وسؤال إبستمولوجي متعلّق بمنهجية القراءة، والحقّ أنّ أيّ قراءة عليها أن تواجه النّص من خلال وجوده كمنجز لا من خلال وجوده كاحتمال وإمكان، حتّى لا تسقط في التّعميم أو الانتقاء أو التجزئ.

وقد سعى النّقاد سعيا جديّا حثيثا إلى تأسيس نظريّة للرّواية وبلورة شعريّة روائيّة تستعين بمختلف المناهج والمعطيات العلميّة خاصّة في مجال اللّسانيات، الشّعرية، السيميائيات، تحليل الخطاب، وقبل ذلك التّحليل النّفسي، والسوسيولوجيا....

وهو ما يوفّر أفقا لقراءتها قراءة تغتني بالتّراكم النظري والتنوّع الإجرائي لتجاوز الفصل بين الخطاب السّردي والخطاب الرّوائي ، بين بنية الرّواية ودلالتها عبر-اللّسانية، بين خطابها السّردي ونسقها السوسيوثقافي.

إنّ كلّ قراءة مطالبة بالإنصات للرّواية بعيدا عن الاختزال والتّصنيفات" قراءة واعية بخطواتها المنهجيّة وباختياراتها الإستراتيجية التي تنظر إلى النّص باعتباره نسيجا علائقيا لمكونات خارجية وداخلية"1، ومكونات أخرى مواربة لا هي داخلية تماما ولا هي خارجية تماما، إذ لا يمكن لتحقّق الممارسة النّصية للخطاب الرّوائي أن يكتمل من دون الاحتفاء بخطابها الموازي، خطاب العتبات النّصية.

إنّ فاعليّة القراءة إذن مرتبطة بفاعليّة الجهاز المفاهيمي للممارسة النّقديّة من ناحيتي الرّؤية المعرفيّة والأدوات الإجرائيّة.

والقراءة كما يعتبرها جيرالد برنس"فعالية تفترض قبلا وجود نص، ووجود قارئ، وتفاعلا بين النّص والقارئ"2 إنّ التّفاعل يكمن في إجابة القارئ عن أسئلة النّص وإجابة النّص عن أسئلة القارئ، فالفاعليّة القرائيّة كما يعتقد ياوس  ومن قبله غادمير تتجلّى في ديالكتيك السّؤال/ الجواب.

إنّ حوارا سيظلّ قائما بين النّص/ القارئ ما دام النّص مواربا مضلّلا متسربلا بالغموض، ضانا بسرّه، ومادام القارئ عاشقا لماّ يصب مرغوبه بعد، فمتى ما تكشّف النّص  وأسلم رغب القارئ عن نصّ إلى نصّ أو رغب النّص عن قارئ إلى قارئ.

إنّ الحوار الذي- لا ينتهي بينهما إلا ليبدأ- أساسه حيويّة السؤال، إنّ السؤال فقط هو مناط القراءة، لكنّ السؤال المتعجل ينتج معرفة سطحيّة باهتة، إنه مراودة تنتهي بالقدّ من قبل أو من دبر  على الأغلب لأنّ النّص عصيّ، أمّا السؤال المحتمل الممكن فيفضي إلى قراءة محتملة، أو قراءة ممكنة لأنّ الإجابة يقينا تكون احتمالا ممكنا.

إن القراءة كمتعة إذن لا تخضع أبدا لقانون المؤلّف أو النّص بقدر ما تخضع لخرق هذا القانون، إنّها القراءة وفق منطقها الخاصّ الذي يسمح لها بإعادة ترتيب لعبة الدّوال والمدلولات لصنع معنى ممكن قرأه المتلّقي ولم يقله النّص، لأنّ في نصيّة النّص ممكنات لا يثبتها النّص ولا ينكرها تحمل دائما على الخرق والتجاوز. 

القراءة/التّلقي:

إن القراءة هي برزخ التحوّل من حالة الما قبل إلى حالة الما بعد ، إنّها نقطة الانعطاف التي احتفت بالقارئ وألحّت على دوره بدلالة الأمر القطعية في الفعل"اقرأ" ، الذي يستوجب المقروء/ و القارئ الذي يدخل في حالة سيرورة.

إنّ القراءة" فعل خلاق، يقرب الرمز من الرمز، ويضم العلامة إلى العلامة، ويسير في دروب ملتوية جداً من الدلالات، نصادفها حيناً ونتوهمها حيناً، فنختلقها اختلاقاً. إنّ القارئ وهو يقرأ يخترع ويتجاوز ذاته نفسها مثلما يتجاوز المكتوب أمامه، إنّنا في القراءة نصب ذاتنا على الأثر، وأنّ الأثر يصب علينا ذواتاً كثيرة، فيردّ إلينا كل شيء في ما يشبه الحدس والفهم".3

وإذا كان المؤلف يرسل، فالقارئ يتلقى والتلقي في لسان العرب هو الاستقبال، وفلان يتلقى فلان أي يستقبله لكن الذائقة الاستعمالية تفضل استخدام التلقي على الاستقبال بإزاء الرسالة اللسانية ، وفي الخطاب القرآني" وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم"4 ، و" فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه"5. فزيادة على ما يختزنه فعل التلقي من دلالة التشارك والتفاعل فقد تقدم المتلقي البشري على مرسل الخطاب السماوي تأكيدا على دوره المركزي في تفعيل الرسالة .

من الثّابت إلى المتحوّل:

إن الثابت في العملية الأدبية أنها تقوم على الركائز الثلاث : المؤلف/ النص/ القارئ ومن هنا فقد جاءت الدراسات النقدية لتهتم بالمؤلف ثم تحولت إلى النص ثم أخيرا إلى القارئ.

وقد لاحظ تودوروف أن القارئ هو أكبر المنسييين في نظريات الأدب الكلاسيكية كلها، إن فعل القراءة أمر مفرط في البديهة حتى يبدو في الوهلة الأولى أنه لا يمكن أن نقول فيه شيئا6.

وقد نشأت نظريات القراءة والتلقي والتأويل التي طورتها مدرسة كونستانس ضمن المشروع ما بعد البنيوي  لتجعل جوهريا ما كان جانبيا ومهملا في النظريات السياقية، وحتى البنيوية التي بالغت حد الغلو في الانتصار لمبدإ المحايثة فقصدت إلى جعل العملية الأدبية في دائرة التواصل الإنساني وموازنة المعادلة الجديدة بنقل مركز الثقل من إستراتيجية التحليل من جانب المؤلف /النص إلى جانب النص/القارئ.

إن القراءة كمفهوم إذن سهل الانتقال من السياقية والنصانية، والقراءة هي بحث عن مدلول، إنه فعل الحفر بعيدا عن السطحي المباشر المنتهى.. توجه صوب العميق والباطن والمكتنز، إنها عبور من الدال نحو مدلول غير منته أو متحقق ما قبلي، يبدعه المتلقي لحظة قراءة.

وفعل القراءة كما يعتبره إيزر " بوصفه تفاعلا ديناميا بين النص والقارئ حيث النص يجاوز نفسه ممتدّا في القارئ، والقارئ يخرج عن ذاته يمتدّ في النّص"7 . إنها بتعبير صوفي لحظة إتحاد حيث النّص يتجلى في حضرة المتلقي وحيث المتلقي يتعبّد في حضرة النّص.   

لقد بدأت سطوة القارئ تتعاظم منذ أن أطفات البنيوية الأنوار التي كانت مسلطة على المؤلف وأبدلتها بأخرى تضيء من داخل لغة النص وبها.

والحق أن النقاش حول قتل المؤلف دبر منذ الطبعة البنيوية المبكرة منذ الشكلانية التي بدأت تحفر في لغة النصوص ، ثم بعدها توالت محاولات استبعاد المؤلف بظهور السيميائية التي تدعو إلى تحرير إشارات ودوال النص من قيودها المعجمية لإكساب النص فاعلية قرائية ينهض بها القارئ ثم مع نظريات النص التي عدت النص فسيفساء نصوص أخرى ،تتناسل بعيدا هناك مفلتة من سطوة أصحابها.

وما دام كل نص حسب بارت هو تناص مصنوع من نصوص أخرى موجودة فيه ، فلا داعي للاهتمام بالمؤلف أو مقصديته ومن هنا نزع بارت مسوح القداسة الأولى عن المؤلف وصار ممكنا حمل النص إلى وجهات مختلفة ولبس القارئ أولى مسوح القداسة ووعده بارت بأن المتعة جنته الموعودة.

واجترحت تبعا لذلك للقارئ توصيفات توحي بتعدده كالخبير النموذجي الحقيقي المقصود... في مقابل واحدية المؤلف الذي تقادم العهد على موته.

وبعد البنيوية جاء تيار ما بعد الحداثة في طبعته التفكيكية التي أمعنت في تمزيق النص وتفكيكه لإلباس القارئ قداسة أخرى ومنحه سلطانا على جثث دوال النص  يقرأ فيها ما شاء متجاوزا مخترقا لدواله محترقا بمتع أخرى لم يحددها دريدا لأنها منزلة تضيق عنها العبارة.

فالقراءة إذن ليست مفهوما خارج- نصيا تماما "إن قراءة المتلقي المتجاوزة أو التجاوزية هي عملية حركية ونشاط وجداني حدسي هدفه اقتناص الإشارات الكامنة- في لا نصية الدلالة -في العمق ، والما وراء ، وليس الموجودة في السطح -الدلالة النصية-إنه يغوص في أغوار النص ليستخرج دلالته اللانصية، "8 دلالة لا تصدر إلا عن ذات محترفة لا هاوية.

ولعل " ما تضمنته شعرية أرسطو من تطهير للعواطف بالفن كتصنيف مركزي للخبرة الجمالية يمكن اعتباره تصويرا مبكرا لنظرية تلعب فيها استجابة المستمعين دورا رئيسا"9، إن التنفيس الانفعالي بالتلقي يعد من الكلاسيكيات المؤسسة التي احتفت بالمتلقي/ السامع. أما حديثا فيمكن اعتبار الشكلانية الروسية، ومدرسة براغ، والسوسيولوجيا، وعلم النفس، والسميائية والتداولية....من المؤثرات في ظهور جماليات للتلقي.

أما الجو العقلي الذي ساعد على ازدهار النظرية فهي فلسفتي الفينومينولوجيا، خصوصا فينومينولوجيا هوسرل وانجاردين بأبحاثه حول الخبرة الجمالية، والهرمنوطيقا مع جهود غادمير في الفهم .

 

ظاهراتية انجاردين وتأسيس الخبرة الجمالية:

الفينومينولوجيا حركة فلسفية أو منهج في الفحص الفلسفي يركز على الدور الحيوي والمركزي للإنسان المدرك في عملية تقرير المعنى. والنقد الأدبي الفينومينولوجي لا يركز على العمل الأدبي نفسه بل على خبرة القراءة، ويسعى إلى أن يصف العملية التي يدخل بها عمل أدبي ما في وعي القارئ ، وبهذا مهدت الفينومينولوجيا لنظرية القراءة.10إنه يتتبع رحلة المعنى من عالم الظواهر الخارحية إلى عالم الإدراك الداخلي، أي من النص ذي الأساس المادي إلى وعي المتلقي.

ذويعد إسهام انجردان في مجال الإستطيقا الفينومينولوجية من أهم المحاولات وأشدها صرامة والتزاما بالمنهج الفينومينولوجي " فأصحاب المحولات السابقة كان كل منهم مشغولا بمشروعه الخاص أكثر من انشغاله بالمشروع الفينومينولوجي في ذاته ولذلك كان التحليل الفينومينولوجي يتم تكييفه أحيانا وفقا لأغراض خاصة" 11 . مقارنة مع محاولات هايدغر ، أو سارتر،أو ميرلو بونتي وحتى دوفرين.

ذولكونه كان طالب هوسرل فقد انشغل بطرح الأسئلة الفلسفسية ، وليس هذا معناه أن انجاردين "لم يكن له مشروعه الفلسفي الخاص به، ولكن مشروعه الخاص كان هو الفينومينولوجيا ذاتها"12.

ذلقد كرس إنجاردين إنجازاته الفكرية لإثراء البحث الفلسفي الفينومينولوجي في ميادين عديدة شملت مباحث الإبستيمولوجيا، الأنطولوجيا ، مبحث القيم ، والإستطيقا. ويمكن القول إن انجاردين "يباشر مشروعه الفينومينولوجي على جانبين أو مستويين متلازمين: جانب الأنطولوجي (الموضوعي  لبنى الأشياء والموجودات)، والجانب القصدي (الذاتي للأنشطة الواعية للإنسان)"13.

وفي ضوء هذا الإطار المنهجي الفينومينولوجي يعالج انجاردين مبحثه الإستطيقي. أي من الظاهرة "النص" كوجود مادي ، إلى وجود جمالي إدراكي.  وبهذا فإن المبحث الجمالي عنده ينقسم إلى جزأين مرتبطين معا ترابطا تلازميا :

1/المبحث الأنطولوجي للعمل الفني: أي دراسة بنية وأسلوب وجود  العمل الفني باعتباره موضوعا قصديا.

2/ومبحث الخبرة بالعمل الفني: أي دراسة العمل الفني كما يفهم من خلال العمليات الذاتية القصدية لدى الشخص المدرك .

إن هذا التناظر أو الارتباط التلازمي يعني وجود علاقة تبادلية بين العمل الفني" كوجود" والخبرة به "كوعي".،14إن العمل الأدبي حسب انجاردن إذن "من حيث بنيته وخواصه يمتد وراء أساسه المادي "15، إن النص يتخفى وراء نصيته،" بيد أنه من الضروري أن نلاحظ أن هذا التمييز الماهوي –من حيث البنية وأسلوب الوجود-بين العمل الفني وموضوعه المادي  لا يعني أنهما منفصلان لا رابط بينهما". ونجده يقدم لنا وصفا وتحليلا مورفولوجيا لبنية العمل الأدبي فهو يوجد قصديا في أربعة مستويات أو طبقات:

-الطبقة الأولى:تمثل المستوى الصوتي"الطبقة المحسوسة تكون متأصلة وجوديا في الوسيط المادي، أو مادة العمل التي من خلالها يتوضع العمل أو يكتسب حالة موضوعية ذات طبيعة ذاتية مشتركة.

-الطبقة الثانية: في هذه الطبقة يتجاوز العمل الفني مستوى تجليه المحسوس دون أن ينفصل عنه، وإذا كانت الطبقة الأولى تسمح بتجلي العمل أمام كثرة الذوات، فإن طبقة المعنى هي التي تؤسس الفهم أو الاتصال بين هذه الذوات، وعلى هذه الطبقة يقوم الإدراك الجمالي للذات الملاحظة/المتلقية .

-الطبقة الثالثة: وتمثل مستوى الموضوعات المتمثلة، فالمعنى عند انجاردين يشير قصديا إلى موضوع ما، وهي تقدم المساحة الخيالية للعمل الفني التي يتجه إليها قصد الملاحظ من خلال نشاط تخيلي.

-الطبقة الرابعة: تنبثق من طبقة الموضوعات المتمثلة وتتمها ويسميها انجاردين –طبقة المظاهر التخطيطية –هذه الموضوعات يستعين بها المتذوق والملاحظ في عملية تعيين المضمون القصدي اللامتحدد للموضوعات المتمثلة16، إن القراءة ظاهراتيا تعني تحول النص إلى وعي جمالي لدى المتلقي من المكون الصوتي للكلمات، إلى وحدات المعنى، ثم بناء المتخيل ، فتجلية مناطق الغموض بملء الفجوات التي تستدعي المتلقي . أنها تعني بمفهوم ريفاتير معالجة النص لغويا وأسلوبيا، ثم محاولة تجاوز إكراهاته البنائية وترجمة شفراته وسننه .

ويعتبر انجردين "أن السمة المميزة لكل عمل فني من أي نوع كان هي أنه ليس من صنف الشيء الذي يكون محددا تماما من كل جهة بواسطة مستوى أولي من كيفياته المتنوعة، وهذا يعني بعبارة أخرى أن العمل الفني ينطوي في باطنه على فجوات مميزة له تدخل في تعريفه أي على مواضع اللاتحدد .إنه إبداع تخطيطي وعلاوة على ذلك فإن كل تحديداته ومكوناته أو كيفياته تكون في حالة تحقق فعلي، ولكن بعض منها فقط تكون كامنة.....ويترتب على هذا أن العمل الفني يتطلب عاملا آخر يوجد خارج ذاته، وهو الشخص الملاحظ كي يجعله وفقا لتعبيري الخاص عيانيا"17 .

إن انجاردين يحاول تقديم مفهوم المتعالي عند هوسرل كإجراء يطبقه على النص فالنص ظاهرة تشتمل على بنيتين، بنية مادية ثابتة وأخرى بنية الفهم متغيرة تنتج من خلال تفاعل النص مع المتلقي،  ومن هنا فهو لا يهتم فقط بالنص إنما أيضا بالأفعال التي تدخل ضمن الاستجابة إلى ذلك النص، وهكذا جعلت فينومينولوجيا انجاردين المتلقي ركنا أساسيا في إدراك العمل الأدبي.

 هرمينوطيقا غادمير وإجراءات الفهم:

تعنى كلمة هرمنوطيقا "علم أو فن التأويل"، وإذا شئنا استخدام عبارة دقيقة قلنا إنها تعني"فن امتلاك كل الشروط الضرورية للفهم"، ويرجع شلاير ماخر استخدام للدلالة على هذا المعنى إلى1654.  18.

استخدم المصطلح ذو الأصل المدرسي اللاهوتي في عملية تفسير الغموض الذي يكتنف  النصوص المقدسة ،ثم اتسع من بعد ذلك مجال استعماله ليشمل "كل ظاهرة يتطلب معناها تفسيرا، يفرض تجاوز حالة الاغتراب إذ أصبح العمل الهرمنوطيقي يتكفل بردم الهوة بين العالم المألوف الذي نعيش فيه والمعنى الغريب الذي يرفض أن يستوعب آفاق عالمنا كما يرى الفلاسفة المعاصرون"19.

ولكن الهرمينوطيقا وبعدما كانت تستند إلى البعد النفسي لدى شلاير ودلتاي، ولصيقة بالأنطولوجيا في فلسفة هايدجر، وأسيرة الفينومينولوجيا مع هوسرل صارت أقرب إلى البعد الفلسفي العالمي صارت الهرمنوطيقا مع غادمير قائمة على حلقة الفهم التفسير/التأويل والتطبيق.

إن التفسير هو الشكل الخارجي للفهم فنحن على اعتبار غادمير نفسر أولا وأخيرا ما نكون قد فهمناه. أما الممارسة التأويلة في نظره هي تطبيق للنص ،أو ضمن الوضع الراهن للشارح أو لمفسر هذا التطبيق نتيجة تفاعل بين أفق النص والأفق الراهن للمفسر.

ومن هنا فإن غادمير ربط التأويلية بشروط تاريخية "لا تفصل بين النص ذاته والشروط التاريخية لللمؤول أو لواضع  النص 20 .

إن التقليد التاريخي المشار إليه هنا يتمثل في ضوء غادمير بوصفه جدلا -وحوارا-بين النص وآفاق القراءة المتوالية أما النص الأدبي نفسه فلا يمتلك معاني أو قيما ثابتة أو نهائية"21.

جمالية ياوس: تفاعل القارئ/النص:

إن جمالية ياوس هي تأسيس يبدأ حيث انتهت التراكمات النظرية في تناول الظاهرة الأدبية، إن التلقي عند ياوس تجل بين لحظتين يكون عليهما المتلقي لحظة الماقبل ولحظة المابعد وما بينهما برزخ حيث يمتزج النص بالقارئ، ويمتزج القارئ بالنص وهذه اللحظات البرزخية فقط هي التي تكتب تكتب تاريخا جديدا للأدب .

" ذلك أن تاريخانية الأدب ليست متضمنة في علاقة التحام تتحقق بعديا بين أحداث أدبية ، ولكنها تقوم على التجربة التي يكتسبها القراء من الأعمال أولا"22 .

لقد جاءت جمالية ياوس نتيجة تراكم معرفي حمل كتاباته على أن تأخذ "منحى حواريا لا يسلم بالوجود، بل يجادل في أنساق مفتوحة على الآخرين للاستفادة وقد يمتد حواره إلى ذاته فيأخذ ويعدل ويحور23 .

فقد جاءت جماليته نتيجة حوار معقد ومناقشات مع الظاهراتية كما رسمها هوسرل وانجاردين، والتأويلية من خلال غادمير وريكور، والبنيوية وسوسيولوجيا الأدب، وأفضى النقاش أخيرا إلى أن المؤلف لحظة يكتب والنص لحظة يؤلف تبقى لحظة خارج التاريخ ما دامت لحظة القارئ لما تبدأ بعد. ذلك أن القيمة التاريخية للعمل الأدبي ستبقى مادة أولية مادامت  تقبع تحت أساسه المادي بمفهوم انجاردين، أي طالما هي في بطن النص حتى تصير إلى بطن القارئ بتعبير الغذامي.

 فالمتلقي إذن هو الأحق بكتابة تاريخ للأعمال الأدبية ما دام القارئ هو الذي"يقبل أو يرفض أو يعارض مؤلفا ما سواء قام بذلك كله مرة واحدة أو بكل دور على حدة".24.

وما دام الأمر كذلك فالسؤال المشروع هو: لماذا كان القارئ جوهر نظرية التلقي؟.

طرح ياوس مفهومه الإجرائي الذي أطلق عليه تسمية أفق الانتظار/ التوقعات، ويقصد به "مجموعة من المعايير الثقافية والطروحات والمقاييس التي تشكل الطريقة التي يفهم بها القراء ويحكمون من خلالها على عمل أدبي ما في زمن ما "25. ويتضمن أفق الانتظار /التوقعات ثلاثة عوامل رئيسية:

1-التجربة القبلية التي يملكها الجمهور عن الجنس الأدبي الذي ينتمي إليه العمل الأدبي.

2-شكل الأعمال السابقة وموضوعاتيتها التي يفترض العمل الجديد معرفتها.

3- المقابلة بين اللغة الشعرية واللغة العملية ، وبين العالم التخيلي والواقعة اليومية.26.

وهذا يعني أن القارئ لا يواجه النص العيني معزولا ووحيدا بل يوجهه من خلال الأنظمة النصية المترسبة في لاوعيه وفي ذاكرته القرائية"27 ، فجدوى المتلقي تكمن في استنفار مخزونه المعرفي والثقافي القريب والبعيد.

وقد حدّد ياوس للقارئ أفقين للانتظار " أفق سابق، يكون عليه المتلقي قبل التقائه بالنّص"، أي مرجعيته التي تأسست بفعل الترسب القرائي، وأنتجت منظومة خاصة من المعايير الشخصية التي تجمع بين المتناقضين الثبات /والتحول .

"أما الانتظار الثاني وهو عامل ناتج عن تمازج النصّ بالقارئ أثناء القراءة، إذ تعتري الأفق السابق مخالطة قد توافقه أو تخيب آماله، ويركز "ياوس" على عامل التخييب الذي من شأنه زحزحة الموروث وتطعيمه أو تحويله وتبديله، وخلق أفق جديد يخلفه فيتيح للنص سبل تقديم معايير جديدة تتجاوز السائد" 28 .

"إن أفق التوقعات... يمكن تتبعه من خلال الاستراتيجيات النصية –النوع الأدبي، الإلماح الأدبي، وطبيعة القص واللغة الشعرية-التي تؤكد توقعات القراء وتعدلها وتدمرها أو تسخر منها"29.

إن ما تخلفه قراءة من تحول وانتقال أو تحوير مقارنة بقراءة سابقة للنص الواحد هو في الأساس ما يكتب تاريخا للقراءة بعيدا عن المعايير السياقية لفعل القراءة ذاته.إن المسافة بين أفق سابق وأفق لاحق هي التي تحدد مكانة الأعمال الأدبية. ويستخدم ياوس هنا بصورة أساسية نموذجا انحرافيا ، فالقيمة الجمالية لنص ما تتم بوصفها وظيفة لانحرافها عن معيار معين ، وإذا لم تخب توقعات قارئ للنص أو تنتهك، فإن النص من ثم سوف يكون نصا من الدرجة الثانية.

فالخبرة الأولى بالتوقعات المخيبة سوف تثير تقريبا على نحو ثابت استجابات سلبية على نحو قوي، وسوف تختفي بالتالي أمام القراء اللاحقين وفي عصر لاحق يتغيير الأفق ولا يعود العمل يمزق توقعات قرائه سلبيا30. إن القيمة الأدبية تتحدد طبقا لـ"المسافة الجمالية"اي الدرجة التي ينفصل بها عمل ما من أفق توقعات قرائه".31

"هكذا جادل ياوس متكئا على الهرمينوطيقا الفلسفية في أن الأعمال الأدبية تستقبل على أفق موجود من التوقعات المكونة من معرفة القراء اللحظية وتصوراتهم عن الأدب وإن معاني الأعمال تتغير بقدر ما يتغير ذلك الأفق"32.

إن تجليات القراءة تختلف من نص لنص ومن متلق لمتلق ذلك أن معايير النص الإجناسية والتيمية والتخييلية  في حال حل وتحول أزلية من أجل إرباك منظومة المتلقي القرائية ووضعها في حال هدم وتأسيس فتنبني الذات القارئة انطلاقا من نصية النص مرتحلة عن نصية أخرى. إن مقياس تطور النوع يكمن في طرف المتلقي لأن مجموعة المعايير التي يحملها من خلال تجاربه السابقة في قراءة الأعمال هي التي ترسم ذلك التطور في اللحظة التي تتعرض فيها إلى تجاوزات في الشكل والموضوع واللغة وهذه اللحظة هي لحظة الخيبة حيث يخيب ظن المتلقي في مطابقة معاييره السابقة مع المعايير التي ينطوي عليها العمل الجديد" الأصول المعرفية لنظرية التلقي .33

يتم إذن بناء المعنى وإنتاجه داخل مفهوم أفق الانتظار حيث يتفاعل تاريخ الأدب والخبرة الجمالية مع فعل الفهم عند المتلقي ونتيجة لتراكم التأويلات –أبنية المعاني- عبر التاريخ يتحدد لدينا سلسلة تاريخية خاصة بالتلقي تقوم بقياس تطورات النوع الأدبي.

تؤدي -لحظات الخيبة – دورا رئيسيا في هذا التأسيس التاريخي حيث تعد تأسيسا لأفق جديد وهكذا يتم التطور في الفن الأدبي عبر استبعاد الآفاق المتجاوزة وتأسيس آفاق جديدة.34، في القراءة إذن يتمازج النص الأدبي مع القارئ الذي يعده بارت نصا كبيرا ،إن امتزاجا كهذا يلقي على القارئ مهمة مسائلة النص من خلال أفق انتظار وإعادة تشكيله بتناسخ الأسئلة بعضها بعضا سابقا ولاحقا ومآلا.   

ايزر وتفاعل النّص/ القارئ:

يعتبر ايزر أن الشيء الأساسي في قراءة كل عمل أدبي هو التفاعل بين بنيته ومتلقيه لهذا السبب نبهت نظرية الفينومينولوجيا بإلحاح إلى أن دراسة العمل الأدبي يجب أن تهتم ليس فقط بالنص الفعلي بل كذلك وبنفس الدرجة بالأفعال المرتبطة بالتجاوب مع ذلك النص35

ذلك أن القيمة لا تكمن في ما قدمه النص بشكل منته إنما فيما قدمه من احتمالات ممكنة يحققها المتلقي ، فالنص ذاته لا يقدم إلا مظاهر خطاطية يمكن من خلالها أن ينتج الموضوع الجمالي للنص بينما يحدث الإنتاج الفعلي من خلال فعل التحقق" وتحقق النص يعني أنه خرج من إبداع المؤلف إلى إبداع المتلقي.36

وفي مناقشته لنظرية انجاردين في التعيين الفني خلص إيزر إلى أن للعمل الأدبي قطبين، القطب الفني والقطب الجمالي الأول هو نص المؤلف والثاني هو التحقق الذي ينجزه القارئ .

 


 



           

وفي ضوء التقاطب يتضح أن العمل ذاته لا يمكن أن يكون مطابقا لا للنص ولا لتحققه بل لابد أن يكون واقعا في مكان ما بينهما يجب حتما أن يكون العمل الأدبي فاعلا في طبيعته ما دام لا يمكن اختزاله لا إلى واقع النص ولا إلى ذاتية القارئ وهو يستمد حيويته من هذه الفاعلية.37، وهكذا حول ايزر النص من كونه موضوعا إلى نص بوصفه إمكانية ومن هنا فقد فرق بين حدود ثلاث:   النص- تعين النص-العمل الفني.

1-النص:هو الجانب الفني،أي ما هو موضوع هناك أمامنا من قبل المؤلف كي نقرأه

2-تعين النص:نتاج القارئ،أي تحقق النص في عقل القارئ، وقد أنجز من خلال ملء الفجوات .

3-العمل الفني: ليس هو النص ولا هو تعين النص إنه يقع في نقطة اندماج النص والقارئ.38

 إننا إذن بإزاء لحظات ثلاث: لحظة نص المؤلف، لحظة النص ذي الأساس المادي ، ولحظة نص المتلقي.

إن لحظة المتلقي هي التي تنتج الجمع بصيغة المفرد، فالنص بالنسبة لصاحبه واحد وبالنسبة لذاته واحد أما بالنسبة للمتلقي فمتعدد،" وإن ما يدعى بالتلقي –حسب ايزر-ليس إلا منتوجا ينشئه النص في القارئ"39 فما دام "الموقع الفعلي للعمل يقع بين النص والقارئ فمن الواضح أن تحقيقه هو نتيجة للتفاعل بين الإثنين"40. إن ما أثار اهتمام ايزر من البداية هو السؤال :كيف وتحت أي ظروف يكون للنص معنى بالنسبة للقارئ؟.

ويهدف ايزر من خلال سؤاله إلى قلب المسلمة الكلاسيكية التي تجعل المعنى مخفيا في النص فقد أراد أن يجعله في التفاعل بين النص والقاري" أي كتأثير يتم اختباره وليس هدفا يجب تحديده" 41 وقد طرح ايزر مفاهيم إجرائية تحاول الإجابة عن هذا الإشكال الذي ظل يستفزه.

قارئ ايزر الضّمني:

يمكن عد مفهوم القارئ الضمني من أكثر المفاهيم خلافية وقد جاء مقابلا لمفهوم المؤلف الضمني، وعلى خلاف قارئ ريفاتير الأعلى وقارئ فيش المخبر وقارئ  وولف المقصود جاء قارئ ياوس الضمني ذلك أن "مفاهيم القارئ الثلاثة تنطلق من فرضيات مختلفة وتهدف إلى حلول مختلفة أيضا. فقارئ ريفاتير الأعلى مفهوم صالح للتأكد من  الواقع أ ويمثل القارئ المخبر مفهوما هو بمثابة مرشد ذاتي ويهدف إلى تقوية –إخبارية- القارئ وكفاءته والقارئ المقصود يمثل مفهوم إعادة البناء كاشفا عن الاستعدادات التاريخية للجمهور القارئ الذي كان يقصده المؤلف.42

"إن القارئ الضمني كمفهوم له جذور متأصلة في بنية النص إنه تركيب لا يمكن بتاتا مطابقته مع أي قارئ حقيقي"43 . "إن هذا الاصطلاح يوحد كلا من ما قبل بناء المعنى الضمني في النص وإحساس القارئ بهذا التضمين عبر إجراءات القراءة" 44، فمفهوم القارئ الضمني إذن أنه "بنية نصية تتوقع حضور متلق دون أن تحدده بالضرورة"45. وهو قارئ ذو وجود قبلي إلا أنه تجريدي غير حقيقي إنه بنية مسجلة في النص  تحدده توجهات ممكنة، فالنص بهذا المعنى يهيئ متلقيه ويتهيأ له .

ايزر ووجهة النّظر الجوالة:

إنّ النّص ذو الطبيعة الخطيّة لا يمكن قراءته دفعة واحدة فهو يدخل في وعي المتلقي بتقسيط غير مريح على الأغلب حيث يدخل في لعبة الحوار مع الأجزاء التي يقرؤها آنيا دون أن تغيب عن وعيه لا تلك الأجزاء التي قرأها قبلا فهي لا تتوقف في غيابه عن الحضور ولا تلك التي لما يقرأها بعد  فهي لا تتوقف عن خلق أفق توقعه وهكذا  تصبح وجه نظر القارئ في النص من دون قرار إنها ذات طبيعة جوالة.

لا يمكن تخيل موضوع النص إلا من خلال المراحل المختلفة و المتتابعة للقراءة. إننا دائما نقف خارج الموضوع المعطى في حين أننا نحتل موقعا داخل النص الأدبي ؛ وبالتالي فالعلاقة بين النص والقارئ تختلف تماما عن العلاقة بين الموضوع والملاحظ : فبدل علاقة بين الذات والموضوع، هناك وجهة نظر متحركة تتجول داخل ذلك الذي ينبغي أن تدركه هذه الوجهة، وهذه الطريقة لفهم موضوع مّا تكون خاصة بالأدب46 .

مناطق اللاّتحدد :

إنّ تفاعل النّص /القاري هو إجابة ايزر عن سؤال كيف يكون للنّص معنى عند  القارئ؟ إنّ العملية التفاعليّة التشاركيّة تسمح للقارئ بالكشف عن المتخفي من خلال المتجلي في البنية النصية أي "اكتشاف ما لم يقله النص من خلال ما قاله" 47.أي أن يبني المتلقي مدلولا من خلال تفاعله مع النص الذي يعتبر دالا . مادام أن كل عمل أدبي غير تام من حيث المبدأ، وهو يستبطن ويهيئ للمتلقي مواقع لا تحديد وانكسارات وشقوق فيه باستمرار، وتقترب فجوات ايزر من بقع الإبهام عند انجاردين.

وهكذا يتيح النص مسافات يتداخل فيها مع خيال القارئ لإنتاج الموضوع الجمالي" فليس المعنى موجودا سلفا فارضا نفسه فقراءته تدخل ضمن ما يدعى بالقراءة التفاعلية أو ضمن ما يدعى بالقراءة الإبداعية -بتعبير محمد مفتاح- ومثل هذه القراءات والتقنيات التي تقدمها هي المؤهلة للكشف عن المسكوت عنه ، ولملء الثغرات التي يحويها النص " 48.

إن الفجوات التي توجد في كل عمل أدبي ويجب إن يملأها القارئ وكل قارئ وكل قراءة سوف تملأ هذه الفجوات على نحو مختلف ومن هنا ينتج التعدد داخل الواحد ، "فالقراءة تمنحنا الفرصة لصياغة ما ليس مصوغا"49. الفراغات والشواغر تشكلان طريقة لقراءة النص بتنظم مشاركة القارئ مع بنائيتها للحالات المتنقلة وبذات الوقت فإنهما يجبران القارئ لإكمال البنائية وهكذا ينتجان الموضوع الجمالي 50. إن البياض إذن لون يستفز القارئ ذو أثر تنشطي تفعيلي وتحييني. لتنتهي لعبة القراءة ويتقابل في الأخير نص المؤلف/ نص القارئ.

عود على البدء:

هكذا إذن تحولت الأنظار أخيرا إلى المتلقي ثالث اثنين في المقاربة الألمانية على غرار المقاربات السياقية  التي تزلفت للمؤلف أو النصانية التي تعبدت في محراب النص واغتالت صاحبه في سرية معلنة زمن السطوة البنيوية. ويمكن القول إن النظرية الألمانية توجهت صوب المتلقي من مسارين متماثلين ظاهرا مختلفين باطنا لكنهما  متكاملين آخرا:

-  مسار تفاعل القارئ/النص: وهو ما نحاه ياوس ضمن خريطة أفق الانتظار حيث تدخل الذات القارئة عبر لعبة المطابقة /الخرق ضمن صيرورة القراءة.

-  مسار تفاعل النص/ القارئ : وهو توجه ايزر إذ ينطلق من كون النص هو حصيلة تمظهره الخطي من جهة ومجموع تأويلاته من جهة أخراة بتعبير مرتاضي إنه أي النص يتهيأ ضمن نصيته لقارئ محتمل ويهيئ له إمكانات قرائية عبر لعبة الخفاء/ والتجلي ليؤسس نصوصا ضمن صيرورة القراءة.

إنها نهاية تبدأ، وبدء لا ينتهي حيث القارئ يساءل النص والنص يساءل القارئ ،حتى تغيب في حوارها معالم سطوة أحدهما على الآخر أو تكاد لكن اليقين الوحيد أن سلطة القارئ  مهما حاولت الانفكاك من سلطة النص تسقط فيها ذلك أن مصير النص القرائي محكوم بما يحمله من شفرات وراثية تحفظ له جوهر الكينونة وأيضا حق الانتساب إلى مؤلف حي ولو حسبه بارت ميتا.

السّارد / القارئ من الواحد إلى المتعدّد :

طالعنا مصطلح المؤلف الضمني عند واين بوث سنة 1961 من خلال مؤلفه "بلاغة التّخييل" حاكى هذا المصطلح توجهان سارا جنبا إلى جنب الأول ..

-  توجه اهتم بالسّراد (بنيوي سيميوطيقي) منذ جهود بارت وتودوروف الذي فرّق بين كاتب مادي / وسارد، وتمييزات جون بوييون بين وجهات النّظر أو ما اشتغل على إنضاجه جيرار جنيت في مفهوم التّبئير أو(الأصوات )..مرورا بمختلف أشارت كريستيفا حول الإنتاجية النّصية، وببعض أعمال يوري لوتمان ..

في بداية اهتمام السّرديات بمسألة الرّاوي تمييزا له عن الكاتب والمروي له عن القارئ أجري تمييز خاص بين الرّواة، واعتبروا جميعا شخصيّات من ورق وذلك بهدف استبعاد المؤلف الحقيقي حتى وإن كان مرّهنا في النّص "51 ، وهكذا أهملت السّرديات في البداية مسألة القارئ / المتلقّي في زحمة اهتمامها بصوت الرّاوي والتّنظير له أغفلت المروي له.

-  توجه اهتم بالقرّاء منذ المفهوم/ التّجريبي والقارئ الجامع/ الأعلى الذي اقترحه ريفاتير، وقارئ فيش المخبر، وقارئ  وولف المقصود، جاء قارئ ياوس الضمني وقارئ ايكو النّموذجي .

فالصّيرورة الطبيعية للتطوّر جعلت السّرديات تستحضر في كل حقبة من حقب  تبلورها بعض القضايا التي أغفلتها أو أهملتها لأسباب علمية أو إجرائية ، فمنذ أن صارت السّرديات قادرة وقابلة للانفتاح على علوم مجاورة بعد أن اكتملت عدتها وذاتيتها وشرعت في استحضار مختلف القضايا المؤجلة، مثل المروي له، والمتلقي، وأصبحت مطروحة بشكل ملحّ وضروري لتطوّرها واستمرارها52.

1-عتبة العنوان وتشكيل القارئ الضّمني:

إن العنوان مع صغر حجمه نصّ موازي ونوع من أنواع التّعالي النّصي الذي يحدد مسار القراءة، فأولى فعالية التلقي تبدأ منذ العنوان، الذي "يمثل أعلى اقتصاد لغوي"53، إذ "يعدّ نظامًا سيميائيًا ذا أبعاد دلاليّة، وأخرى رمزية، تغري الباحث بتتبّع دلالاته، ومحاولة فكّ شفراته الرّامزة" 54" فهو رسالة لغويّة تعرّف بهويّة النّص، وتحدّد مضمونه وتجذب القارئ إليه، وتغويه به" 55 معوّلا على الوظيفة التّعيينية، والوصفيّة، والدلاليّة الضمنيّة المصاحبة، والإغرائيّة في تفاعله مع القارئ.

إنّ العنوان المعجمي الصّريح هو ذلك العنوان المأخوذ من النّص الذي ورد فيه بالتّركيب نفسه دون تغيير، كما هو الحال مع عنوان" دمية النّار" ويقدّم العنوان المعجمي الصّريح المستخرج من النّص مباشرة على أنّه مفتاح تأويلي " يسعى إلى ربط القارئ بنسيج النّص الدّاخلي والخارجي ربطا من العنوان الذي يمرّ عليه" 56، ومن هنا فإنّ أيةّّ" نظريّة في العنوان يجب أن تتأسّس على ضوء المفارقة التي تطرحها مقارنته بعمله " 57 ، على هذا الأساس يعمد المؤلف في دمية النّار إلى تأسيس علاقة نصّه بالعنوان الذي جاء ليعمّق علاقة القارئ بالنّص، إذ يبدو له سابقا على النّص مشحونا بحمولة دلالية لا تغتني إلاّ بالنّص بحدّ ذاته، يتشكّل القارئ الضّمني في بنية العنوان انطلاقا من جدليّة الخفاء/ والتّجلي التي تستدعي آليات التّأويل لترهين المعنى الذي يبقى ناقصا إلا بعد ربط العنوان بالنّص، جاء على لسان الشّخصية البطلة الاعتراف التّالي" صرت الشّر، ودمية الشّر، صرت الشّيطان، ودمية الشّيطان، صرت تلك النّار اللاّهبة والمستعرة، النّار الحارقة والمسعورة، صرت مثل دمية النّار، تحرق من يمسكها58 "

إنّ هذه البنية تحمل دالا يمثّل طاقة تدليل حرّ في مواجهته تعمد اللّغة إلى قانون التّركيب الجملي، وقانون التّركيب النّصي، بهدف ضبط فعاّل لتلك الطاقة وتوجيهه نحو دلالة اقتصادية بامتياز صالحة للتداول59" . أي بتحيين المعنى انطلاقا من تفاعل القارئ بالنّص .

2-عتبة التّصديروتشكيل القارئ/ الرّاوي:

تستهلّ «دمية النّار» بمقدمة عنوانها "الرّوائي" إذ يحضر الروائي، أو شبيه له اسمه (بشير م) ، وقد كان كاتبا مدفوعاً بسحر جنوني إلى الكتابة، يقابل الرّوائي بطل روايته رضا شاوش ،"التقيت بطل هذه الرّواية السّيد رضا شاوش وأنا في الرّابعة والعشرين من عمري"60

رضا شاوش, ذلك الشّخص الغامض، الذي يثير الحيرة والتساؤل لقد كان بالنسبة لبشير م "مثل تلك الشّخصيات الرّوائية، التي تملك ماضياً معقّداً، وتجربة مرّة في كل شيء، وهي على شفا جرف من السّقوط في أرض الّليل التي لا قرار لها...تخّيلته بطلا تراجيديا يصلح للموضوعات التي كنت أرغلب في كتابتها" 61 فقرر مطاردته، والتّعرف إلى شخصيته، وسبر أسراره واكتشافها. وكان في كلّ مرة يلتقيه مع قلّة فرص التقائه يزيد شغف بشير م بالتعرف على شخصية رضا شاوش واكتشاف أسرارها ...

بهذا الاستهلال يورّط الرّوائي القارئ في عوالمه السّردية ويستدرجه عبر مسارات الكتابة، نحو مسارات القراءة المؤسسة ضمن بنية نصيّة تترقب قارئا ما دون أن تحدّده وظيفته تأسيس اتفاقية مشتركة بين الرّوائي والقارئ تسقط عن الرّوائي بشير م مسؤولية ما سيصدر عن بطل الرّواية الغامض والمحيّر لبشير م نفسه، وتتكشف هذه الشراكة عندما يخبر بشير م القارئ/ القراء "الجميع"  بانّ الرواية كتبها رضا شاوش وسيقتصر دوره في التقديم لها "لقد كتبت هذا التقديم فقط لأنسب لنفسي ما كتبته أنا ولأترك صوته يحكي قصته كما كتبها هو وعلى لسانه " 62 يجد القارئ نفسه مضطرا للانتقال من نصّ إلى نصّ آخر .

3-المخطوط :

يستهلّ المخطوط بمناجاة وبوح رضا شاوش معترفا فيه بغموض شخصيّته " اعترف بأنّني اعتبرت نفسي دائما شخصا غامضا ومجهولا (ليس تماما ليس بهذا الشّكل اقصد الحقيقة لا أعرف ماذا أقصد ) وكنت أعطي الانطباع لمن حولي بأنني كنز أسرار لا ينضب، وأنّه من الصّعب عليهم فهمي " 63، يستحضر الرّوائي / السّارد الثّاني قارئه المحتمل ليواصل من النّقطة التي توقّف عندهاالرّاوي /السّارد الأوّل،  لكن في شكل سيرة ذاتية هذه المرّة ليهيّئه  لتأسيس أفق انتظار جديد.

مادام القارئ هو النّظام المرجعي في النّص "بنية نصيّة "تمثله" سلسلة من التّوجيهات الدّاخلية أو شرط الّتلقي التي يقدّمها النّص التّخييلي– أو الأدبي"64.على اعتبار النّص نظاما تأليفيا خصّص فيه مكان للشّخص المكلّف بتحقيق تلك التأليفات"65.

ويصعب الإمساك بالقارئ الضّمني / النّموذجي باصطلاح ايكو بعيدا عن مسار قراءة القارىء الحقيقي " لأن هذين القارئين لهما ميل لأن يتبع أحدهما الأخر مذكرا أحدهما بالأخر، وفي بعض الأحيان يتطابق أحدهما مع الأخر. فمادام القارئ النّموذجي لا يكون" إلاّ بناء نصيّا فلن يكون باستطاعتنا أن نعرف كنهه باعتباره آلة لإنتاج التفسيرات إلاّ عبر طريق التّجريب لكي نصف النّموذج ينبغي أن نمرّ عبر القارئ الحقيقي  66.

 

الرّوائي /السّارد/ القارئ :

إنّ أي خطاب يرسله راو فإنه يتّجه به إلى مروي له محدّد، إنّه وهو ينتج خطابه ينتج معه صورة المروي له ضمنا، أو يتوجّه به إلى مروي له محدّد،إنه وهو ينتج خطابه ينتج معه صورة المروي له ضمنا أو مباشرة، وكما تقدّم لنا النّصوص السّردية أشكالا متعدّدة من الرّواة تقدّم لنا أيضا أشكالا متعدّدة من المروي لهم أيضا67، والخطاب السردي لرواية دمية النار تؤطره العلاقات التالية:

الباث

المتلقي

الكاتب الضّمني

بشير م

رضا شاوش

القارئ الضّمني

 

 

 

 

 

 يتقاسم فعل القراءة سلطتان :

 1/سلطة الباثّ/ المتعدّد لامتلاكه رسالة لغويّة يريد تبليغها .

  2/وسلطة قارئ/ متعدّد راغب في المعرفة إلاّ أنّ له حريّة الاختيارات في: الامتناع عن القراءة تماما، أو موافقة المسارات التي تتضمّنها بنية النّص، أو الخروج أو مخالفة البرنامج الذي وضعه السّارد.

يبدو الرّاوي في دمية النّار ناقلا أو هكذا يقدّم نفسه أنه ليس مبدع الّرواية " لقد كتبت هذا التّقديم فقط لأنسب لنفسي ما كتبته أنا ولأترك صوته يحكي قصّته كما كتبها هو وعلى لسانه متمنّيا طبعا أن يكون الرّجل على قيد الحياة وأنه سيقرأ كتابه كما تركه لي بلا أي تغيير أو رتوش.. 68

 أمّا الرّاوي المنقول عنه فهو رضا شاوش الذي يستهلّه بمناجاة البطل /الرّوائي:" الحياة قصّة غريبة عندما تروى على لسان شخص سيودّع الحياة بعد ثوان معدودات، فكلّ ما سيستحضره لابدّ أنّه مجرّد حنين لما سيفقده للأبد وما سيفقده هو بالضّرورة كلّ ما كان عليه سابقا، أستعيد كلّ تلك الأشياء الآن، وأنا ابتسم حياتي تبدو لي وكأنّها مرّت كالسّراب أو كاللّعنة "69. إنّ هذا التّصدير للمحكي يقدّم مفتاح التّواصل مع المروي له ذلك أنّه يحدّد نوع الخطاب بأنّه سرد سيرة ذاتية/ غيريّة.

وبهذا يجد فالمروي له/ القارئ نفسه أمام سؤالين؛ الأول سؤال النّوع الأدبي إن كان إزاء رواية أو سيرة ذاتيّة، سؤال النّوع الأدبي يستثير أفق انتظاره يحطّمه ويعيد بناءه من جديد. وليخلق مفارقة الواقع / المتخيّل عند القارئ ويوهمه بأنّ الرّاوي هو المتلقي بشكل من الأشكال لخطاب الرّواية الذّي لم يبدأ إلاّ على لسان مخطوط رضا شاوش.

والأخر سؤال الرّؤية السّردية التي تحوّلت من رؤية سارد لا يعلم من أمر شخصيّته البطلة الغامضة إلاّ ما يثير الحيرة والتّساؤل، إلى رؤية سارد عالم بكل شيء، موجود في كلّ مكان، حتّى أنّه يقدم خطابه بذاتية مكشوفة تبدو معها بعض التّفصيلات أقرب إلى محاولة توثيقيّة.

وهكذا شكّلت رواية "دمية النّار" قارئها الضّمني بالاشتغال على  خرق أفق انتظاره أولا لأنّها بدأت رواية ثم تحوّلت إلى سيرة ذاتيّة /غيريّة، وثانيا لأنّها غيّرت رؤيتها السّردية من صوت "الرّوائي" في المقدّمة، إلى صوت "رضا شاوش" في المخطوط /المتن السّردي، وهو متن ينبني وفق معمارية السّرد السّير ذاتي أساسه تداعي السّردي بضمير المتكلّم، تدفق الاعترافات وتوثيق الأحداث والوقائع . فتشكّل مسار القراءة بتوجيه من مسار الكتابة ذاتها أو البنية النّصية التي تعدّدت فيها المحكيّات دون تقطيع المسارات السّردية إلى مقاطع وفصول إنّما جاءت متداخلة بعضها في بعض يوجّهها ضمير المتكلّم.

القارئ وبناء المعنى:

إنّ معنى النّص كما يشدّد ايزر يبنى بتفاعل القارئ مع النّص ، ولا يستكشف كمعطى قبلي محدّد ومنته، فحتى وإن كانت بنياته متضمّنة في النّص أصلا إلاّ أنّها تنتظر قارئا لتحيينه انطلاقا من تتبّع صيرورة تضمين السّارد له .

قارئ سابق الوجود على النّص في ذهن الكاتب يستحضره قبلا من خلال توقع أفق انتظاره حتى يتسنى له تحديد إستراتيجية مناسبة للنص.

وما دمنا نتحدّث عن قارئ خيالي متضمّن في بنية النّص أي عن النّظام المرجعي للنّص، إذ أنّه الذي بإمكانه تحقيق معناه فإن ايزر يوكل للقارئ الدّور الأول في عملية بناء المعنى فالمعني يتزامن مع التّرهين .

ولنعرّف كيف يبنى القارئ المعنى من الأهميّة أن نعرف الإستراتيجيّة التي بني النّص الرّوائي إذ تصوّر رواية دميّة النّار" القلق الوجودي لشخصيّة "رضا شاوش" وتحوّلاتها المفجعة من مناضل إلى جلاد يهوي إلى منحدر سحيق من الهاوية فيبطش بالجميع حتى بالمرأة التي أحبّها وينتهي به الأمر إلى أن يصير قاتلا أيضا، كلّ ذلك في شكل اعترافات لا تنفصل عن تصوير مرحلة تاريخيّة بأبعادها الاجتماعيّة والسياسيّة والنفسيّة.

من هذا المنطلق المرجعي تتسلسل أحداث الرّواية الأخرى ما يجعله محلّ تبئير لمجمل الأحداث وحافزا أساسيا بالّنسبة لحركة الشّخصيات وأفعالها وتصرّفاتها في فضاء الرّواية .

تفاعل القارئ النّص:

بعد أن حلّل ايزر فعل القراءة " تناول البنية الاتصاليّة للتّخييل أو تفاعل النّص القارئ فأشار إلى أن القارئ غير قادر على اختبار ما إذا كان فهمه للنّص صحيحا وأنّه لا يوجد سياق منّظم يسمح بتمهيد هذا الطّريق في الذّهاب والعودة " إذ لا يوجد إلاّ طريق للذّهاب فأسئلة القارئ للنّص لا يمكن الإجابة عنها إلاّ بالإشارات التي يستخلصها القارئ نفسه من النّص وهنا يأتي ايزر بمصطلح الفراغات وهو نفسه مفهوم عدم التّحديد عند انجاردين "70. 

لكن المنطلق الأساسي في التّعامل مع النّص هي الحقائق المتاحة للقارئ والتي بإمكانه إدراكها أثناء تعامله مع الرّواية أو ما يدعوه ميشال أوتان "بمواضع اليقين" فانطلاقا منها فقط أمكن القارئ من تأويل مواضع الشّك أي المضمرات أيّ تحقق تفاعل النّص مع قارئه الذي يملأ بياضاته والمسكوت بتفعيل آليات التّأويل"71 .

ويبدو ايكو مهتما بآلية عمل الفراغ فهو يرى بأنّ النّص "آلة كسولة تتطلّب من القارئ عملا حثيثا لملء الفضاءات التي لم يصرّح بها أو التي صرّح بها من قبل أنّها بقيت فارغة"72.

إنّ المؤلف وهو يبني نصّه بما يتخلّلها من بياضات، إنّما يشكّل مسارات القارئ الذي يأتي ولا يأتي من خلال بنية نصيّة تتضمّنه وتفترض وجوده قبلا، وما دام إذا" النّص نسيج من الفضاءات البيضاء، والفجوات التي يجب ملؤها وأن الذي أنتجه (أرسله) كان ينتظر دائما بأنها ستملأ وانه تركها لسببين حسب إيكو .73

-     لأنّ النّص إوالية بطيئة (اقتصادية ) تعيش على فائض قيمة المعنى الذي يدخله فيه المتلقي.

-   ثم لكي يمرّ النّص شيئا فشيئا من الوظيفة التّعليمية إلى الوظيفة الجمالية يريد أن يترك للقارئ المبادرة التّأويليّة حتى إذا أراد النّص بصفة عامة أن يكون مؤوّلا بهامش كاف من التّواطؤ والمحافظة على نفس المعنى من مختلف أشكاله فالنّص يريد أن يساعده أحد على الاشتغال" ،ومن بين ما  يقترحه ستانلي فيش من  تصنيف للفراغاتّ.74

1-حسب  شكل من اللاّتحديد هو على الأرجح اتفاقي يفضي إلى ما يشير إليه النّص بسبب ما يعانيه من نقص في الملائمة، ولعلّ هذه أكثر مواضع اللاّتحديد التي جاءت في الرّواية خصوصا في تقديمها للشّخصيات والأمكنة، التي تغيب فيها التّفصيلات وأحيانا لايقدم أي معلومات عنها كشخصية أمه أو إخوته التي لا يجد القارئ نفسه إلا أمام فراغ تحديدها فيلجأ إلى ملئها .

2-كلّ فضاء أو نقطة نصيّة يشعر فيه القارئ لسبب ما ببعض الخلل. كالحدث الذي  يسرده عن حالة رضا شاوش بعد تحوّله المفاجيء وغير المبرّر من قلقه الوجودي وبحثه عن طريقه وهدف لحياته "..لم أعد أذهب إلى مكتبة عمي السّعيد تركتها منزعجا لأنّني لا أصلح لبيع ما هو نبيل كالكتب"،    " تركت الدّراسة بدوري وأنا أقول لا ينفع معي التّعلم ولا القراءة .."" لم أكن أفعل أيّ شيء غير التسكّع في أحياء الجزائر العاصمة دون هدف محدّد لم أعد أتساءل عن معنى حياتي أو معنى الحياة بشكل عام ..."75.

3-كلّ فضاء أو نقطة نصيّة حيث قتلنا عمدا شيئا ما لكي نفعّل مشاركة القارئ. تصل الرّواية بعد أن هدأ صراع رضا الوجودي وصراعه لتحديد وجهته وانهماكه في العمل وتنحرف به ضفة، لم يكن مبرّرا توجهه إليها في هذه النّقطة بالذّات وتحوّل علاقته بالسّعيد بن عزوز من عداوة إلى صداقة وتحوّل موقفه السّريع من النّظام / أوما يصوّره بالمنظّمة أو العصابة بعد غدائه الودّي مع بن عزوز والتقائه للمرّة الأولى مع رجال تلك العصابة 76 .

 

تحميل المقال